التحول العالمي- الانسلاخ عن الغرب وصعود نظام عالمي جديد؟

المؤلف: حسن أوريد09.09.2025
التحول العالمي- الانسلاخ عن الغرب وصعود نظام عالمي جديد؟

أعتقد أن مصطلح "الانسلاخ عن الغرب"، والذي يُعرف في اللغة الإنجليزية بـ "de-westernisation"، يعكس بدقة اتجاهًا عالميًا متناميًا يهدف إلى تقويض الهيمنة الغربية، والسعي نحو عالم متعدد الأقطاب. هذا التحول يسعى لكسر النموذج الأحادي السياسي والاقتصادي الذي هيمن على العلاقات الدولية لأكثر من ثلاثة عقود. بمعنى آخر، هو تحدٍ لسلطة الولايات المتحدة، ودعوة إلى إنشاء مؤسسات مالية بديلة تتجاوز تلك الخاضعة للنفوذ الغربي، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

يشمل هذا الاتجاه الدعوة إلى التخلي عن الدولار كعملة عالمية وحيدة للتبادل التجاري، والاعتراف بصعود قوى عالمية جديدة، مثل مجموعة "بريكس" التي توسعت لتشمل أعضاء جدد، والجنوب العالمي، ومجموعة العشرين، بالإضافة إلى الدول الكبرى التي تستند إلى حضارات عريقة كالصين وروسيا والهند. كما يسعى هذا الاتجاه إلى تعزيز دور الأمم المتحدة والالتزام بالقانون الدولي.

لا يقتصر هذا التوجه على التشكيك في الهيمنة الغربية على الساحة الدولية والاقتصادية فحسب، بل يمتد ليشمل مساءلة القيم الغربية، بما في ذلك حقوق الإنسان التي يراها البعض انتقائية، والديمقراطية التي تشهد تراجعًا، والليبرالية التي تؤدي إلى تآكل قيم التضامن وتهديد الأسرة، وتؤول في نهاية المطاف إلى هيمنة الأوليغارشيات واستعداء الآخر، الأمر الذي يغذي التوترات داخل المجتمعات الغربية ويهدد التعايش السلمي.

في الفترة الأخيرة، ظهرت تطورات بارزة تعزز هذا الاتجاه نحو الابتعاد عن النفوذ الغربي، وستكون لها تداعيات جيوسياسية كبيرة ستؤثر سلبًا على الغرب.

التطور الأول هو زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى روسيا ولقاؤه بنظيره الروسي لافروف، حيث تجسد خلال اللقاء توافق في الرؤى حول إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب.

جاء هذا اللقاء تمهيدًا لزيارة مرتقبة للرئيس الصيني إلى روسيا (لم يتم تحديد مكانها بعد) لحضور احتفالات الذكرى الستين للانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية، أو ما يعرف في الأدبيات الروسية الرسمية بـ "الحرب الوطنية العظمى".

التطور الثاني هو قرار الرئيس الأمريكي برفع الرسوم الجمركية على مجموعة واسعة من الدول، مما يمثل تقويضًا للعولمة التي كانت الولايات المتحدة المحرك الرئيسي لها، حيث كانت العولمة في السابق مرادفًا للهيمنة الأمريكية.

هذا التوجه الجديد الذي تبناه الرئيس الأمريكي يقوض العولمة ويرسخ مفهوم "فك الارتباط"، مما يعني أن القاعدة الذهبية للعولمة، "رابح/رابح"، لم تعد سارية المفعول، حيث لم يعد من الضروري أن يقابل كل طرف رابح طرفًا رابحًا آخر، بل قد يؤدي إلى ما يسميه الاقتصاديون "خاسر/خاسر".

قرار رفع الرسوم الجمركية من قبل الولايات المتحدة أدى إلى رد مماثل من الصين، التي رفعت الرسوم على الواردات الأمريكية، مما يحرم الولايات المتحدة من الحصول على المواد الضرورية اللازمة لصناعة الرقائق الرقمية، وهذا القرار قد يدخل العالم في حروب تجارية.

يتفق العديد من المحللين الدوليين على أن التهدئة الظاهرية من جانب الرئيس الأمريكي ترامب تجاه روسيا مؤخرًا، والحدة في المقابل مع رئيس أوكرانيا، تهدف إلى إبعاد روسيا عن محور بكين، أو ما يسمى في الأدبيات الرسمية للبلدين "صداقة بلا حدود"، بهدف استقطابها في الحظيرة الغربية.

هذه "المغازلة" تتطلب تقديم تنازلات، مثل الاعتراف بحقوق روسيا في المناطق الناطقة بالروسية في أوكرانيا، في إقليم الدونباس، كما أشار إلى ذلك ستيف ويتكوف، ممثل الرئيس ترامب.

هذا التحول يذكرنا بالتقارب الذي حدث بين الولايات المتحدة في عهد نيكسون والصين في حقبة الحرب الباردة، بهدف عزل الاتحاد السوفياتي.

ولكن، هل سيعيد التاريخ نفسه؟ وهل سيتخلى بوتين عن تحالف قوي مع الصين، ومشاريع مشتركة كبرى، وإطار طموح في إطار منظمة شنغهاي للتعاون، لصالح شيء افتراضي مع الولايات المتحدة، في ظل تاريخ من الشكوك والعهود المنكوثة، أو ما يسميه الرئيس بوتين "إمبراطورية الكذب"، في إشارة إلى الولايات المتحدة التي لم تحترم التزامها بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي ودعمت ما تسميه موسكو "الثورات الملونة"، أي قلب الأنظمة من خلال مظاهرات مدبرة؟

القمة الصينية الروسية المرتقبة بمناسبة الذكرى الستين للانتصار على النازية لن تكون مجرد مناسبة احتفالية، بل ستكون محطة لرسم ملامح نظام عالمي جديد يتجاوز الهيمنة الغربية، وتعد بلا شك إحدى المحطات الرئيسية لهذا التوجه الذي يهدف إلى تقويض النفوذ الغربي أو الانسلاخ عنه.

المثير للدهشة أن الولايات المتحدة، أو بالأحرى إدارة ترامب، أصبحت إحدى أدوات هذا الانسلاخ عن الهيمنة الغربية، من خلال التحلل من القواعد التي وضعتها الولايات المتحدة نفسها عندما لم تعد تخدم مصالحها، وهو ما يثير الشكوك حولها على نطاق واسع.

فالولايات المتحدة التي كانت رائدة في دعم حرية التجارة، تتخلى عنها الآن لصالح "الحمائية"، والولايات المتحدة التي كانت حجر الزاوية في حلف شمال الأطلسي ورأس حربته، تعمل على تقويض الحلف بإضعاف أوروبا، حليفها الاستراتيجي الطبيعي.

والولايات المتحدة التي ادعت أنها هزمت الاتحاد السوفياتي ليس بالرؤوس النووية، ولكن بالحرية ونظام السوق، وزعمت الشيء نفسه في الحرب على الإرهاب، تتخلى الآن عن القيم لصالح الصفقات والمصالح الضيقة.

والولايات المتحدة التي نصبت نفسها مدافعًا عن نظام عالمي جديد يقوم على احترام القانون الدولي وعدم تغيير الخرائط الدولية بالقوة، تنحاز الآن إلى القوة وتلوح بها لتغيير الحدود الدولية.

أظهرت الولايات المتحدة نفوذها في علاقاتها مع أوروبا، التي بدون مظلتها الأمنية تظل عملاقًا اقتصاديًا قزمًا عسكريًا، كما يُقال.

وأثبتت الولايات المتحدة هيمنتها في منطقة الشرق الأوسط، ونجحت في تحييد القوى الدولية والإقليمية التي يمكن أن تنافسها على النفوذ في المنطقة.

لا تزال الولايات المتحدة تتميز على روسيا بقوتها الاقتصادية الهائلة، وتتفوق على الصين بفضل تحالفاتها العسكرية وقدراتها العسكرية المتطورة.

ولكن، هل تستطيع الصين وروسيا، وهما تعملان معًا، التفوق في "اللعبة الطويلة" كما يسميها الاستراتيجيون الأمريكيون؟ وهل يمكن للولايات المتحدة أن تحافظ على الثقة مع أوروبا بعد التصريحات الصادرة عن الرئيس الأمريكي ونائبه، التي تعبر عن التحلل من الالتزامات بل وحتى الازدراء؟ وحتى على صعيد منطقة الشرق الأوسط، فإن نتيجة اللعبة لصالح الولايات المتحدة لم تحسم بعد.

إن التوجه الذي ترعاه الولايات المتحدة في العلاقات الدولية، والذي يفضل منطق القوة على الالتزام بالقانون والتحلل من الالتزامات الدولية، قد يؤدي إلى ردود فعل عكسية. وقد تكون القمة الصينية الروسية المرتقبة بداية لتحول قد لا يصب في مصلحة الولايات المتحدة، وقد تنجم عنه تداعيات كبيرة على الساحة الدولية.

يجب أن ندرك أن السياسات الحمائية التي تتبناها الولايات المتحدة لها تكلفة اقتصادية على الاقتصاد الأمريكي نفسه وعلى دخل المواطنين الأمريكيين، وهذه التكلفة قد تنعكس سلبًا على خيارات الناخب الأمريكي في المستقبل.

للناخب الأمريكي كلمته فيما يتعلق بخيارات الإدارة الأمريكية الحالية، التي قد لا تخدم مصالحه الاستراتيجية على المدى الطويل. إن سياسات الترامبية قد تعزز الابتعاد عن الغرب وتؤجج أزمات داخلية فيه، وكذلك داخل الولايات المتحدة نفسها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة